ونحن نستذكر ذكريات وطننا الليبي ، في فترة تعد من أشد فتراته المظلمة الحالكة ، وهي فترة الاحتلال الإيطالي . هاتيك الذكريات التي اختلط فيها الدمع بالدم ، وامتزج فيها الألم بالقهر ، أطل من شرفاتها المثقلة بالأحزان ، أحدُ رجالات ليبيا العظام . إنه السيد المجاهد أحمد الشريف السنوسي ، الذي قذف به القدر خارج أسوار الوطن عام 1918م ؛ ليبدأ رحلة المعاناة في دروب الغربة القاسية ، رحلة الإنسان تجاه المصير المجهول ، تجاه القلق والحيرة ، رحلة استمرت زهاء خمسة عشر عاما ، بداية بتركيا ومرورا بالشام وانتهاء بالحجاز ، التي سلم فيها الروحَ إلى بارئها سنة 1933م.
كثير من الناس يغتربون ، وكثير من الناس يعيشون ويموتون ، لكن يبقى فرق شاسع وكبير بين من يغترب لقضية ووطن ، وبين من يغترب لمعاش وسكن ، بين من يعيش لنفسه ، وبين من يعيش لشعبه ووطنه ، بين من يموت فلا يلهج بذكره إنسان ، وبين من تقام لذكرى موته ندوات الفضل والعرفان .. بين من تكون غربته ملهاةً حافلة بالضياع والشتات ، وبين من تكون غربته ملحمة زاخرة بالمواقف والمنعطفات ، تعكس في فصولها المتداخلة أزمةَ الإنسان مع مجتمعه وعصره وهويته .
هكذا كان السيد ، وقد مثل الإنسانية في أعلى قيمها ، وترجم الوطنية في أبهى صورها بالرغم من إقبال الدنيا عليه من أوسع أبوابها ، كان ذلك يوم أن عرض عليه الطليان ـ كما ورد في الوثيقة الرابعة ـ الملكَ والصولجان ، على أن تكون ليبيا محمية إيطالية ، فرفض طلبهم بشدة ، قائلا لهم : إن طرابلس وبرقة ليستا ملكي ؛ لأجود بهما على الطليان ، بل هما ملك أهلهما .
وهكذا ظل الإنسانُ هو الإنسان ، وظل الوطن هو الوطن . إن هذه الكلمات عكست منظوره النفسي ، الذي عبر به عن أزمة وطن وشعب ، وقع تحت وطأة القهر والاحتلال ، كما عكست منظوره الفكري ، الذي عبر به عن وحدة الوطن الواحدة . هذا هو الإنسان ، الذي غمر الإحساسُ الفاجع عليه نفسه ، وهو يتأمل الواقع المأسوي ، الذي آلت إليه الأوضاع في البلاد ، حيث الاحتلالُ والعذاب والخيانة والعمالة . إن عمق هذه المأساة ، ولَّد في نفسه عمقَ الإحساس ، الذي تلقف من خلاله حبَّ الوطن ؛ فانطبع الوطن في وجدانه ، وانتشر الأمل في أركانه ، وتحرك الوفاء في ضميره وأنفاسه ، فارتسمت بذلك رؤاه ، وكانت أحكاما قاطعة ، وحلولا حاسمة ، لا تقبل المساومة ، فالمحتلون مغتصبون منهزمون ، والنصر آت لا محالة ، إذا الشعوب تمردت وجاهدت في سبيل نيل حريتها واستقلالها . ولا أدل على هذا مما جاء في بعض رسائله التي يقول فيها ـ مخاطبا المجاهدين في داخل الوطن ـ : (( فلا تركنوا إلى بيع وطنكم ، وكونوا رجالا ودافعوا عن الدين والعرض ، وأنا اقول مستعجلا ليس كالقول الأول ، بل هو محقق ، لتأتينكم المساعدةُ قبل حصد الزرع إن شاء الله ، وإياكم ثم إياكم أن يخدعوكم ، يقولوا لكم نعطوكم استقلالكم ، فلا تسلموا في وطنكم ولو أسر السنوسية كلهم ، وأنا واحد منهم ، الله الله تميلوا ، والسنوسية ساداتكم على لا إله إلا الله ، وإعلاء كلمة الله ، وأما إذا مالوا إلى العدو فليسوا بسادة لكم ، وإن أمرتكم بنفسي بالتسليم فلا تتبعوني ، وأبشروا إن شاء الله بنصر من الله وفتح قريب ، قاتلوا أعداءكم يعذبهم الله بأيديكم .. والله إنكم عندي أعز من أولاد صلبي ، والله أنتم لبس عيني ، وفي قلبي دائما ، فالله الله يا أولادي في التمسك وإياكم واليأس .. إياكم والقنوط ، إياكم وأقاويل الناس الفاسدة ، واصبروا وصابروا .. وإن الله مخزي الكافرين ، وما ترونه من أهوال فإنه والله ثم والله زائل عن قريب ، وسترون ما يسركم دنيا وأخرى ، والله يحفظكم بحفظه المنيع.
إن الوطنية هذه لم يتلقاها السيد في مدرسة ، ولم يأخذها من كتاب ، بل من تاريخ مفتوح ، عاش بعض صفحاته الحمراء في صحارى ليبيا وتشاد والسودان . لقد عرف أن ثمة تاريخا يحاسب ، وأن عيونا تراقب . وليس هذا فحسب ، بل إن إحساسه امتد ليصل إلى الأمة قاطبة ، وليجد له مكانا أكبر ، كشكل من أشكال التعبير عن انتمائه وأمانيه .
إن التزامه بالوطن والشعب معا لم يكن قناعا ، بل كان اختيارا عفويا واعيا ، دفع ثمنه غاليا . كان يطوف على الناس في مواسم الحج والعمرة ، يسأل هل ثمة ليبي بينهم ؟ كان يجمع التبرعات .. يخطب في الناي ويلفت أنظارهم إلى الوطن المكلوم .. يعطي التوجيهات والتعليمات .. يكتب الرسائل .. يرقب السماء والنجوم .. يدعو .. يتوسل بالرسل والأنبياء أن يحفظ اللهُ الوطنَ ، وأن يرزقه الشهادة مع الشهداء ! .
وكانت النهاية ، وحصلت الفاجعة ، وجاءت الخاتمة التي اختزل فيها معاناة شعبه ووطنه ، وهو يكابد آلام الغربة والبُعد ، وليعلن الموتُ عن وفاة الإنسان الشقي بآلام أمته وأحزانها ، ولتبكي السماء بمدامعها الطاهرة على فقد إنسان يؤلمه لونُ سحبها الداكنة ، ولتشيع الأرضُ رفات عاشق لذرات رملها الدافئة .