أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عبد الله بن عثمان .
فما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين خير من أبي بكر - رضي الله عنه ، وفي مثل ليلة اليوم في الثالث والعشرين من جمادى الآخر عام ثلاثة عشر من الهجرة توفي - رضي الله عنه - بعد أن خلف النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في أمته بإشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بنصٍّ صريح كما ذهب إلى ذلك طائفة من علماء أهل السنة .
ففي " صحيح البخاري " : ( أن امرأة أتت إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في حاجة فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : أرأيت إن لم أجدك !؟ كأنها تريد الموت ، قال : فأتي أبا بكر ) .
وهَمَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أن يكتب كتابًا لأبي بكر حتى لا يختلف الناس في خلافته ثم قال : ( يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ) . وهذا أشد وقعًا من الكتاب ؛ لأنه لو كتب له لكانت خلافته بنصٍّ من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينقاد لها المسلمون بكل حال ولكن لما كانت خلافته بإجماع المسلمين وكان ذلك بإشارة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك أشد وأوطد .
أقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمرأة : ( إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) ، وهَمَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب كتابًا لأبي بكر أن يكون خليفة بعده ثم قال : ( يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ) .
وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : ( معاذ الله أن يختلف المسلمون في أبي بكر ) .
وخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الناس في الصلاة فصار إمامًا للمسلمين في الصلاة .
مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمَّره النبي - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين في الحج في السنة التاسعة من الهجرة ، وكل هذا إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أبا بكر - رضي الله عنه - هو الخليفة من بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان أحد يستحق الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى أبي بكر لخلَّفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإمامتين : إمامة الصلاة وإمامة الحج ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - : ( لا يطعن في خلافة الصديق وسائر الخلفاء الأربعة - لا يطعن فيها أحد - إلا كان أضل من حمار أهله ) .
كان أبو بكر - رضي الله عنه - من سادات قريش وأشرافهم وأغنيائهم شهد له ابن الدغنة سيد القارة أمام أشراف قريش حين قال له بما شهدت به خديجة - رضي الله تعالى عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( إنك تكسب المعدوم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقرىء الضيف ، وتعين على نوائب الحق ) .
وكانت هذه الأوصاف هي الأوصاف التي ذكرتها خديجة - رضي الله تعالى عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بادر أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الإيمان به وتصديقه ولم يتردد حين دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان بل آمن به فورًا ، ولازم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - طول إقامته بمكة ، وصحبه في هجرته ولازمه في المدينة ، وشهد معه جميع الغزوات وأسلم على يدي أبي بكر - رضي الله عنه - خمسة من العشرة المبشرين بالجنة ، وهم : عثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم أجمعين - .
واشترى - رضي الله عنه - سبعة من المسلمين يعذبهم الكفار بسبب إسلامهم فأعتقهم - رضي الله عنهم - ، منهم : بلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعامر بن فهيرة الذي صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - في هجرتهما ليخدمهما .
وكان - رضي الله عنه - أول من جمع القرآن ، وأول من سمى القرآن مصحفًا ، وأول من سمِّي خليفة في هذه الأمة ، وأول من ولِّي الخلافة وأبوه حي ، وأول خليفة مات وأبوه حي .
وكان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - أعلم الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدلول كلامه وفحواه ، فقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته وقال : ( إن عبدًا خيَّره الله - تعالى - بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله ) . ففهِم أبو بكر - رضي الله عنه - أن المخيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبكى - رضي الله تعالى عنه - فعجب الناس من بكائه ؛ لأنهم لم يفهموا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فهمه أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - .
وكان - رضي الله تعالى عنه - أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر وهو يخطب الناس : ( إن أمنَّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته ) .
هكذا قال النبي الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : ( لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ) . لم يقل لاتخذت علي بن أبي طالب ، ولا العباس بن عبد المطلب ، ولا غيرهما من أقاربه ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولكنه قال : ( لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر ) . فرَضِيَ الله عن أبي بكر .
وجاء مرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( يا رسول الله ، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب - يعني : عمر - شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى فأقبلت إليك يا رسول الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يغفر الله لك يا أبا بكر ، يغفر الله لك يا أبا بكر ، يغفر الله لك يا أبا بكر ) . ثم إن عمر - رضي الله عنه - ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثَمَّ أبو بكر !؟ قالوا : لا ، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلم فجعل وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمعر حتى أشفق أبو بكر أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر ما يكره فجثا - رضي الله عنه - على ركبتيه فقال : يا رسول الله ، واللهِ أنا كنت أظلم ، واللهِ أنا كنت أظلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعْلِنًا فضل أبي بكر : ( إن الله بعثني إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدق وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين ) ، فما أوذي بعدها - رضي الله عنه - بعد ذلك .
وكان - رضي الله عنه - أثبت الصحابة عند النوازل وأشدهم قلبًا ، ففي صلح الحديبية لم يتحمل كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - الشروط التي وقعت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، وكان من هذه الشروط : أن يرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية دون أن يكمل عمرته ، وأن من جاء من قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّه إليهم وإن كان مسلمًا ، ومَن جاء من المسلمين إلى قريش لم يرد إلى المسلمين ، فشقَّ ذلك على المسلمين كثيرًا حتى إن عمر وهو عمر - رضي الله عنه - راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إني رسول الله ، ولست أعصيه وهو ناصري ) ، فذهب عمر إلى أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - يستعين به على مشورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان جواب أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - كجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - أي : لعمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - : ( أيها الرجل ، إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بِغَرْزِهِ ، فو اللهِ إنه على الحق ) ، فكان جواب أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - كجواب النبي - صلى الله عليه وسلم - سواءً بسواء .
وفي هذا دليل على أن أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - أنه أكمل الصحابة وأشدهم ثباتًا في موطن الضيق .
ولما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - اندهش المسلمون لذلك حتى قام عمر - رضي الله تعالى عنه - وأنكر موته وقال : ( واللهِ ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليبعثن الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ) ، ولكنَّ أبا بكر - رضي الله تعالى عنه - كان له منزل بالسنح وكان قد خرج صبيحة موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صبيحتها كان أحسن ما يكون وأشفى ما يكون فاستبعد - رضي الله عنه - أن يموت فخرج إلى مكانه السنح فلما بلغه الخبر رجع إلى المدينة فكشف - رضي الله تعالى عنه - عن رسول - صلى الله عليه وسلم - فقبَّله فقال : ( بأبي أنت وأمي ، طبت حيًا وميتًا ) ، ثم خرج إلى الناس ؛ فصعد المنبر فخطب الناس بقلب ثابت وقال كلماته المشهورة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب بل بفوق ماء الذهب . قال - رضي الله تعالى عنه - : ( ألا من كان يعبد محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد مات ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ) ، وتلا قوله تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) . [ الزمر : 30 ] ، وقوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) . [ آل عمران : 144 ] .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - : ( فما واللهِ ما سمعتها إلا عقلتها فما تقلُّني رجلاي ، وأصبح المسلمون في المسجد يرددون هذه الآية ) .
ولما أراد أبو بكر - رضي الله عنه - أن ينفِّذ جيش أسامة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - راجعه عمر وغيره من الصحابة ألا يسيِّر الجيش ؛ لأنهم محتاجون إليه في قتال أهل الردة ، ولكنه - رضي الله عنه - صمَّمَ على تنفيذه وقال : ( واللهِ لا أحل راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أن الطير تخطفنا ) .
فهذه المقامات الثلاث يتبيَّن بها قوة أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - وأنه أشد الصحابة ثباتًا ، فنسأل الله - تعالى - أن يمُنَّ علينا بصحبته في جنات النعيم مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسائر النبيين ، والصديقين ، والشهداء والصالحين .
ولما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد مَن ارتد من العرب ومنعوا الزكاة عزم أبو بكر على قتالهم فراجعه مَن راجعه في ذلك فصمَّمَ على قتالهم ، قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ( فعرفت أن ذلك هو الحق ) .
وصف أبو بكر عليًّا - رضي الله عنه - فقال : ( كنت أول القوم إسلامًا ، وأخلصهم إيمانًا ، وأحسنهم صحبة ، وأشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديًا وسمتًا ، وأكرمهم عليه خلفته في دينه أحسن خلافة حين ارتدوا ، ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كنت كالجبل ، لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ، متواضعًا في نفسك ، عظيمًا عند الله ، أقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم ) .
وقال - رضي الله تعالى عنه - : ( كان أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لديننا فرضيناه لدنيانا ) .
تولى أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسار في الناس سيرة حميدة ، فبارك الله في مدة خلافته على قلتها فقد كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وتسع ليالٍ ، ومات - رضي الله تعالى عنه - ليلة الثلاثاء - بين المغرب والعشاء - ليلة ثلاثة وعشرين من جمادى الثانية سنة ثلاث عشرة من الهجرة .
وكان من بركته - رضي الله تعالى عنه - أن خلَّف على المسلمين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فكان ذلك من حسنات أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - وعن جميع الصحابة ، إنه على كل شيء قدير .